فصل: المبحث الثالث: زعم اليهود أنهم قتلوا المسيح وصلبوه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنظمات اليهودية ودورها في إيذاء عيسى عليه السلام (نسخة منقحة)



.المبحث الثالث: زعم اليهود أنهم قتلوا المسيح وصلبوه:

وتبعهم النصارى في هذا الزعم الفاسد، وحولوه إلى عقيدة من معتقداتهم الزائفة، مع أن الحق الذي لا يقبل الشك هو ما قاله الله تعالى: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [سورة النساء: 157- 158].
ونجمل القول في هذا الزعم وما سبقه من خطوات فنقول: لقد تآمر اليهود على التخلص من عيسى، والقضاء على دعوته، بعد أن ذاع صيته، واشتهرت دعوته، وحيث قاومه اليهود بأساليب شتى من اتهامه، والسخرية منه، ومجادلته، وإنكار معجزاته، وغير ذلك، لكنهم رأوا أن كل هذه السبل التي سلكوها لم توقف مد هذه الدعوة، تآمروا على نهاية المسيح كعادتهم مع من قتلوا من الأنبياء من قبل. واستخدموا في هذه المؤامرة تلك الخطوات التي سبق الحديث عنها، من التآمر السري عليه- حيث اجتمع (السنهدرين).
[السنهدرين: هيئة رسمية تتكون من واحد وسبعين عضوا يرأسها رئيس الكهنة، وتمثل السلطة الشرعية في إسرائيل].
و (السنهدرين) أول شكل تنظيمي من أشكال التنظيم العنصري السري (القوة الخفية) وهو المجلس الأعلى الذي يحكم الطائفة، ويملك وحده حق الحل والعقد في شئونها.
والسنهدرين كلمة دخيلة على اللغة العبرية بعد عصر الكتاب المقدس بأجيال، وأصلها يوناني (سوندريون) بمعنى المجلس، أو الجمعية، أو الهيئة الاستشارية، من فعل في اللغة اليونانية هو (سوندرهو) معناه: اجتمع، واستعمل اليونان لفظة (سوندريون) في لغتهم المؤتمر السياسي الذي ينعقد على أثر الحروب، ولهيئة أركان الحرب، كما عبروا بها عن المحكمة العليا، وكذلك: مجلس الشيوخ. واستعملها المؤرخ اليهودي (يوسيفوس) في القرن الأول الميلادي، في حديثه عن التنظيمات الجديدة التي أدخلها (جوبيونوس) الحاكم الروماني على الشام سنة 57 ق. م. وعندما قسم فلسطين إلى خمس محافظات، وجعل لكل منها هيئة حاكمة تسمى (السنهدرين) وكانت (أورشليم) إحدى هذه المحافظات الخمس،- وأوضح كثير من محققي التاريخ اليهودي أن استعمال هذه الكلمة اليونانية بين اليهود أقدم من ذلك، حيث يرجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد ترجموا بها اللفظة العبرية الفصحى (زقينيم) أي شيوخ الجماعة، اقتداء بموسى الذي اختار من قومه سبعين رجلا، هم أعضاء المجلس الذي يحكم بني إسرائيل، ولا ندري كيف كانوا يحكمون على أيام موسى، ولكننا نعلم أنهم في عصور ما بعد السبي البابلي كانوا يقومون بالمشورة والإفتاء وتنظيم الهيكل والقضاء بين الناس، كما كانوا هم الذين يصدرون أحكام الإعدام، وكانت هذه المهمة الأخيرة دقيقة جدا بالنسبة لهم، فكانوا يعنون بالبحث عن الشبهات والظروف المخففة حتى لا تكثر أحكام القتل، احتراسا من قول التلمود: (إن السنهدرين الذي يقتل واحدا كل أسبوع لجدير بأن يسمه مخربا) وقد نظم أخبار التلمود (السنهدرين) فجعلوه على درجتين: السنهدرين الأعظم؛ وهو المجلس الأعلى المركزي لجميع اليهود، ويتألف من سبعين رجلا، على رأسهم واحد ينوب عن موسى، هو الملك إن وجد، أو الحاخام الأكبر، وكانوا إذا اجتمعوا جلسوا في نصف دائرة.
- السنهدرين الأصغر: وهو مجلس محلي لكل تجمع يهودي، يتألف من ثلاثة وعشرين عضوا. وقد ورد في التلمود أن مدينة أورشليم كانت تمتاز بمجلسين من السنهدرين الأصغر، ينعقد كل منها عند باب من أبوابها، إلى جانب السنهدرين الأعظم الموجود بها أيضا. وكان السنهدرين الأصغر محكمة تقف في القضاء عند درجة معينة لا تتعداها، إذ تذهب القضايا الكبرى إلى السنهدرين الأعظم. ورئيس السنهدرين الأعظم كان يحمل لقب (أمير) بالعبرية (ناس)، ويتخذ مكانه في وسط الأعضاء، بصفة خليفة موسى، وكان اختياره يتم بالانتخاب بين الأعضاء، ولم يكن يشترط فيه أن يكون أكبرهم سنا، ويكتفي بأن يكون أوسعهم علما وأشدهم غيرة على الدين، وأعمقهم وعيا بمصالح اليهود.
هذا، وجلسات السنهدرين الرسمية لم تكن تعقد عادة في بيت رئيس الكهنة، ولذلك حين اجتمع السنهدرين في كامل هيئته، فإن من المعتقد ألا تعتبر هذه (محكمة) حقيقية، بل اجتماع عقد لهدف واحد، هو تمكين السلطات اليهودية من أن توافق أولا على: ضرورة إصدار حكم الموت على يسوع (وهذا أمر يخضع للقوانين اليهودية) وثانيا: الاتفاق على خطة مناسبة لإغراء الوالي الروماني على إصدار حكم الإعدام (وهذا يتطلب بالطبع تهمة يكون للقضاء الروماني حق الولاية وصلاحية النظر فيها.
راجع في هذا: الشخصية الإسرائيلية، د/حسن ظاظا، صـ 51- 54،
المسيح في مصادر العقائد المسيحية، م/ أحمد عبد الوهاب، صـ 150، ط/ مكتبة وهبة الأولى، سنة 1978م، 1398هـ،
جذور الفكر اليهودي، صـ 90،
التفسير الحديث للكتاب المقدس، صـ 420، ط/ دار الثقافة].
ليفكر كيف يكون التخلص من المسيح، حيث قرروا ضرورة التخلص منه، ثم أصدروا في هذا الاجتماع أمرا بأن كل من يجد المسيح أن يبلغ عنه، ليلقوا القبض عليه، وأخذوا في التجسس كخطوة تنفيذية لما تم إصداره من ضرورة القبض على المسيح، وقد استعمل اليهود في هذه الخطوة الإغراء بالمال، وهو إحدى الوسائل الهامة لديهم لتحقيق أهدافهم، فتسللوا وسط أتباعه وأصحابه وارتبطوا بواحد من الذين يلازمون المسيح ليعرفوا أخباره منه، وحولوه من تابع مؤمن، إلى ساع لتنفيذ مؤامرة ضد معلمه وسيده!!
ويبدو أن تعاليم سيده لم تصل إلى قلبه فلم يصمد إيمانه أمام ضغط المادة وقوة الإغراء، إلى أن تم القبض على السيد المسيح- كما تقول الروايات- بأسلوب عنيف قاس، كأن المسيح مخرب أو مسيء، أو مجرم قاتل!!
وبعد القبض عليه قدم للمحاكمة أمام المجلس اليهودي، وعندئذ اجتمع الكتبة والشيوخ، وتقدم شهود زور كثيرون ليفتروا على المسيح فرية تكون مبررا لقتله.
كما نفث أولاد الأفاعي سم مؤامرتهم، حيث وشوا بالمسيح عند الحكومة الرومانية، مدعين أن دعوة المسيح لن تبقى الشعب على ولائه للحكم والسيادة الرومانية، فإن الشعب لو سمع دعوته فإنه سيعمل على التحرر النفسي، والتخلص من الأسر الاجتماعي والسياسي بأداة الدعوة الجديدة. وشوا بهذا وغيره، رغم أن المسيح لم يتعرض لسياسة الدولة بنقد أو تجريح. وبهذه الوشاية دخلت الدولة معركتها مع عيسى، وهكذا تآمر اليهود لارتكاب هذه الخطيئة والاشتراك في هذه الجريمة التي اشترك فيها الجميع ورضيها، ولم تتم إلا بعد اجتماع ومشاورة وإقرار، حتى اشترك فيها الشعب اليهودي أيضا، ذلك الذي ضلل تماما، وأصبح أداة عمياء تبغي ما يريد القوم الذين استشعروا خطر دعوة السيد المسيح.

.إجماع يهودي على خطيئة قتل المسيح:

خطيئة القتل الكبرى التي أرادها اليهود، أو قام بها اليهود- على حد رواية الأناجيل- عند مطاردتهم للسيد المسيح وقتله، لم تكن عملية استأثرت بها طائفة من اليهود دون باقي الطوائف اليهودية، ولا إثما وقع فيه بعضهم باندفاعه أو علاقة خاصة يمكن أن يتبرأ منها الآخرون.
[وهنا ينبغي أن نسجل- للأمانة العلمية رأيا آخر- يؤكد أن (لفريسيين) من اليهود كانوا وراء هذه المؤامرة، فقد ذكر الدكتور كامل سعفان أن من أهم معتقداتهم الإيمان بمجيء (المسيح المنتظر) ليعيد (ملكوت الله) ومع ذلك كانوا- بسبب تعصبهم- الطائفة التي وقفت في وجه السيد المسيح، وكانت على رأس المؤتمرين به، ولم ينفكوا يدبرون له الكيد، حتى حكم بصلبه. اليهود تاريخ وعقيدة صـ 205 بتصرف].
وقال الدكتور أحمد شلبي: ويرى بعض الباحثين أن الفريستين لا يكونون فرقة دينية وإنما يمكن ان نطلق عليهم حزبا سياسيا له اتجاهاته الدينية، وهم يعتقدون أن دولة اليهود لا بد أن تستعيد مكانتها، ولذلك كانوا يؤمنون بالمسيح الذي يجيء ليعيد (ملكوت الله) وكان الفريسيون يريدون من بني إسرائيل ان يتمسكوا بالعقيدة القديمة... وكانوا يعارضون الأنبياء وكان لهم نشاط واسع في المجتمع اليهودي ووضعوا أنفسهم موضع المعارضة، وصورهم كاتبوا الأناجيل في صورة معارضة للمسيح عيسى عليه السلام ووضعوهم في موضع معارض له.
[انظر اليهودية صـ 227، 228، بتصرف، وكذا قاموس الكتاب المقدس، صـ 675].
وإنما الخطيئة التي تقصها آيات الأناجيل وخاصة فيما ورد في (متى) من الإصحاح السابع والعشرين، أن الشعب اليهودي ممثلا في سادته وشيوخه وكهانه استجاب لموجة من التضليل رهيبة ومخيفة أعمت الشعب جميعه عن الحقيقة التي أرادوا قتلها والتخلص منها، ليعودوا مرة ثانية بعد التخلص من خطر الدعوة الجديدة إلى مراحل القهر والزيف والرياء والنفاق التي طالما تم فيها استغلال عرق المكافحين حتى ضاعت بينهم وفيهم قيم العدل والإخاء.
يقول (متى):.. ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه، فأوثقوه ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي.
وهنا فقط إذا كان لنا أن نقف عند آيات الأناجيل والمعتقدات التي وردت بها، فنقول على ضوئها: إن عملية القتل التي قام بها اليهود ضد السيد المسيح لم تتم إلا بعد اجتماع ومشاورة وإقرار. لو لم يكن الشعب اليهودي جميعه قد غلب على أمره، وضلل تماما، وأصبح أداة عمياء، تبغي ما يريد القوم الذين استشعروا خطر دعوة السيد المسيح لما تيسر للمجتمعين أن يحققوا ما ابتغوا ولقامت في وجههم طوائف الجموع الفقيرة والمتململة من طول الآم السخرة والسيطرة اليهودية في ظل قسوة الطبقات اليهودية المستغلة.
أقول: لولا أن الجماعات الفقيرة والمريضة التي كانت تري أن السيد المسيح أداه لها ومخرجا من محنة الآلام وشدائد البلاء قد غلبت على أمرها ووصلت بها موجة التضليل إلى الحد الذي أصبحت فيه هذه الجماهير بمختلف طوائفها أداة عمياء لما تيسر للمجتمعين والمتأخرين أن يحققوا مبتغاهم ضد السيد المسيح.
وهذا التقرير على حد ما تصوره الأناجيل للمؤمنين بها يتضح تماما ويتقرر مما يصوره (متى) في الإصحاح السابع والعشرين، وهو يرسم الجو العام لحال الشعب اليهودي حين إقرار الخطيئة قبل تنفيذها، فيقول:..... ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع على أن يطلبوا (باراباس) ويهلكوا (يسوع) فأجاب الوالي وقال لهم: مَن مِن الاثنين تريدون أن أطلق لكم؟ فقالوا: (بارباس) فقال لهم (بيلاطس) فماذا أفعل بيسوع الذي يدعي المسيح؟ قال له الجميع: ليصلب فقال الوالي: وأي شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخا قائلين: ليصلب، فلما رأي بيلاطس أنه لا ينفع شيئا، قال: إني برئ من دم هذا البار، أبصروا أنتم، فأجاب جميع الشعب، وقالوا دمه علينا وعلى أولادنا، حينئذ أطلق لهم باراباس، وأما يسوع فجلده وأسلمه ليصلب.
وأمام هذا النص الإنجيلي الذي ورد عند (متى)، فإن الثورة الإنجيلية والتي يؤمن بها كل أصحاب المعتقد الديني في الأناجيل تصور الشعب اليهودي جميعا بأنه قد استجاب لثورة كهانه وشيوخه، وأصبح معهم تحت توجيه القادة في رفض كامل لكل ما يتعلق أو يتصل بالسيد المسيح، بل ويصور رغبة الوالي في أن يعفو عن المذنب الذي أخر العفو عنه كما كان يتبع تقليديا، فقد كان الوالي يريد أن يقدم للجماعات اليهودية في عيدهم مذنبا عندهم هو السيد المسيح ويطلق لهم سراحه، ولقد كان يوجد وقت القبض على السيد المسيح ومطاردته عند القوم جميعا مذنب كبير ومخطئ آثم يعرفونه، ويتأكدون من عظم ذنبه. وفداحة ما اقترف، ولكنهم أصروا على التخلص من السيد المسيح ومع اختلاف طبيعة كل من الـمُتَهَمَين (السيد المسيح، والمذنب الآثم) إلا أن القوم جميعهم في الثورة العمياء والاندفاعة الحمقاء التي قتلت فيهم جميعا المعاني الإنسانية التي كان من الممكن أن تربطهم بقيم أو عقيدة، وجعلتهم يأبون أن يطلقوا سراح المعلم والداعية بعد أن عميت قلوبهم وبصائرهم، وأصبحوا يمثلون موقفا غوغائيا أحمق، ومن عجب أن آيات الإنجيل لم تخل عند هذا المعتقد بالذات في روايتها له من الإسهاب والتفاصيل لكل ما يتعلق بالظروف العامة وبالدقائق التي كانت من وجهة نظر الرواة الإنجيليين تحيط بالنهاية التي فرضها اليهود على السيد المسيح- سلام الله عليه.
ولقد كان إقرار الخطيئة اليهودية التي قرر القيام بها وتنفيذها تحالف قوى الكهان والشيوخ تعبيرا عن توجيه ممثلي فئات التناقض الاجتماعي من الفريسيين والبارسيين والصدوقيين والعشارين والمرابين وغيرهم، ثم تأثيرهم جميعا في الحال الاجتماعي كله وتلويثهم لما تبقى من العقيدة الدينية التي كانت مناخا عاما للسيد المسيح من أثر دعوته.
ولقد بلغت السيطرة اليهودية تضليلا للجماهير المغلوبة على أمرها إلى الدرجة التي كانت تجعل جمعا كبيرا من الشعب المريض المطحون بالألم يتجرد من الولاء للبشارة الدينية على يدي السيد المسيح ويتحلل من الارتباط بالعقيدة الدينية على يد المعلم العظيم. ولقد بلغ من سيطرتهم على الجماهير البسيطة أن الذين كانوا يرون في السيد المسيح المخرج والخلاص أصبحوا تحت أسر القوى الثائرة تثور هي الأخرى وتهلل للنهاية التي مثلت أبشع مرحلة في تاريخ قاتلي الأنبياء وراجمي المرسلين.
ولقد كان كل هذا بعض حلقات في السلسلة الطويلة التي تقود الفرد الإنسان اليهودي ومجتمعه إلى بهيمية الطبع الملتوي والخلق النهاز الذي يأبى إلا أن يكون مسيطرا أو سيدا أو مستغلا، يمثل كل أساليب العلاقات العنصرية ومظاهر الاستغلال المقيت، ما إن تلوح في أفق حياتهم دعوة من الحق والعدل والمساواة، إلا وتقوم الكهانة الدينية في خدمة السيادة الدنيوية وتتكاتف قوى تناقضات الميراث القائم على الوشاية والاستغلال حتى تتخلص من الدعوة والدعاة بالقتل أو بالتشريد أو المطاردة، وهذا هو ما تقصه آيات الأناجيل كميراث لكل المؤمنين بهذه الآيات عما تعرضت له دعوة المعلم العظيم، وعما تعرض هو له وعما ناله أصحابه ووقع عليهم من صنوف المحن والآلام حتى انتهى الدور العظيم للمعلم- سلام الله عليه- وقوى الاستغلال اليهودي ساخطة عليه وثائرة.
[التاريخ اليهودي العام، صـ 347، 350، بتصرف].
ثم ماذا؟
إنه بعد المحكمة الملفقة والتي لم تكن سوى موقف من المهاترات التي أرادها القوم في حوارهم مع السيد المسيح، وبعد الأخبار المتعلقة بالقبض عليه، والمناقشات الدينية التي تمت بعد القبض عليه- فيما تقصه الأناجيل- كان الحال الاجتماعي أن الجماهير اليهودية قد ضللت، أي أنها قد أصبحت في موقف رفض وثورة وتمرد وسخط على المعلم، وكأن (متى)- فيما يرويه في الإصحاح السابع والعشرين- يريد أن يصف تظاهرة ثائرة وساخطة أحاطت بالموكب الذي لازم السيد المسيح، وهو يساق إلى النهاية الأثيمة التي تصورها الأناجيل للمؤمنين بها.
يصور لنا (متى) غوغائية الشعب اليهودي وبهيمية طبعه، واندفاعه الأعمى الأحمق، وهو يطارد- في النهاية- داعي الحب والسلام، بعبارات الشماتة والسخرية والهزء والنكران، والنيات المبيتة بالغدر والخداع ولم يكتف بالمطاردة والتضييق والحصار وتعبئة الجمهور بالقوة والوشاية، ثم تشويه كل ما دعا إليه، وما نادى به، لإيقاف خطر دعوة المسيح الجديدة، ثم التمرد والثورة حتى كانت المأساة بأن اشترك الجميع في تلك النهاية المأساوية.!!
كل هذا يصور لنا علاقة الشعب اليهودي عبر التاريخ في مواقفهم من دعاة الحق والخير والسلام، فإنه من داخل الحال الذي يصوره (متى) عن السيد المسيح- الذي نعتقد نحن أنه الشبيه- وهو يساق في موكب الشامتين الساخطين وقد نزع القوم عنه ملابسه وعروه ووضعوا حول رأسه شوكا، أو ضفروا إكليلا من شوك ووضعوه على رأسه، وبصقوا على وجهه، وجعلوا قصبة في يمينه، وهم يستهزئون به، قائلين: السلام عليك يا ملك اليهود، ثم يبصقون عليه.
هكذا يصور الإنجيل هذا المشهد المأساوي، ونحن نستخلص منه: كيف يعمل النكران والكفر عمله ببني إسرائيل في علاقاتهم وتاريخهم مع السيد المسيح، فحتى أثناء المواقف الرهيبة التي طاردوا فيها السيد المسيح، ووصل إلى الحال الذي صورته الأناجيل، قد وقفوا منه في شماتة وسخرية، ينادون بعبارات الجحود والنكران، مؤملين في اندفاعهم وحقدهم أن يقتلوا في قلب من لا يزال متعلقا أو مرتبطا بما دعا إليه المعلم عليه السلام- كل أثر لهذا الارتباط.
يقول (متى):.... وكذلك رؤساء الكهنة أيضا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها! إن كان هو ملك إسرائيل فينزل الآن من على الصليب فنؤمن به، قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراد، لأنه قال أنا ابن الله.
ومن أعجب العجب أنه حتى الذين لم يكن من صالحهم ولا يضيرهم حياة السيد المسيح أو نهايته، بل وما يكون لهم أن يجاروا قوى التناقض الطبقي الذين يهددهم منهج السيد المسيح في الحياة ودعوته إلى الحب والعدل، أن اندفعوا مع القوم في ثورتهم، وأصبح تيار التمرد والسخط والرفض لقيم الحق والخير يشمل جميع فئات وجماعات بني إسرائيل، فاللصان اللذان كانا حكم عليهما بالصلب، وبنفس النهاية التي يبتغيها القوم للسيد المسيح، قد أصبحا رغم نهايتهما السيئة، مثل القوم جميعا ويرون في السيد المسيح مثلما يستشعر القوم جميعا، الخطر والرفض لوجود حياة المعلم العظيم، فكانا- على حد رواية (متى)- يقفان نفس الموقف... وبذلك أيضا كان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه!!
إنها- على أي حال- صورة من حوادث التاريخ الإنساني المريرة- كما تصورها الأناجيل- تكالبت فيها قوى الشركي تمزق من الأرض قضية الخير قبل أن ينمو ويستقر، على لسان صاحب دعوةٍ يؤسس مبادئها ويجمع الناس عليها من أجل الحق والعدل.
إنها آيات تصور لنا المعتقد الديني- حسبما سجلته الأناجيل- عن علاقة الشعب اليهودي وجماعات إسرائيل بالسيد المسيح، ويمثلها القوم الإسرائيليون كأسلوب حياة في محاولات لاستبقاء وهم التشدق بالأفضلية والامتياز أو الاختيار والاصطفاء، فإن المرحلة الخطيرة من عمر الوجود الإسرائيلي وهي المرحلة التي حاول فيها السيد المسيح أن يؤصل ويخلق مع معاني الخير في قلوب الذين سرقوا الحق وقتلوا أصحابه- على حد ما ترمز إليه عبارات الأناجيل- فرفضوا الدعوة وصاحبها.!!
ومع كل هذه الاستخراجات التي أتينا عليها مما قررتها آيات الأناجيل في تاريخها لنوع العلاقة اليهودية المسيحية التي بدأت من جانب جماعات إسرائيل في عصر الميلاد بالتخلص من صاحب الميلاد- عليه السلام- ثم عنادهم وإصرارهم ومواصلتهم طريق العداء والرفض، بل والمطاردة لكل قيم ومبادئ وعقيدة صاحب الميلاد عليه السلام، فإنه في العصر الحديث وتحت سمع الدنيا وبصرها، قد وجد من الذين أرادوا أن يشوهوا ميراث الدين المسيحي وصلب دعوته وعقيدته في خدمة مرحلة جديدة وعصرية من محاولات اليهود صهاينة الحركة الاستعمارية العنصرية الرأسمالية- مجموعة من العملاء والجهلاء، على حد سواء- عملوا على أن يشوهوا آيات العقيدة الدينية المسيحية التي تكشف عورات اليهود وسوء نياتهم نحو قيم الحب والحق والخير، وتبدد النظر عن إثم عملهم وخطيئة ميراثهم، كان ذلك حين أمكن لنشاط اليهود العالمي أن يصل إلى معقل القداسة الدينية وموطن التطهر المسيحي في العالم كي يمسخ ويشوه الآيات التي تقوم عليها قداسة الدين المسيحي ومعتقد المسيحيين في الفاتيكان وفي غيره من بقاع الأرض، وحيثما يوجد مسيحي يردد بضع آيات من الأناجيل يؤمن بها ويعتز بقداستها.
[التاريخ اليهودي العام، صـ357- 363، بتصرف].
حقا إنها مفارقة عجيبة. تبرئة اليهود من دم المسيح: ومع أن المسيحية كانت منذ بدايتها دحضا صريحا لكل آمال اليهود، قائلة: (هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا) فإننا نجد أن المسيحية قد تحولت منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أكبر مساند عنيد، لتحقيق آمال اليهود ومطامعهم، حيث خضع (البروتستانت) أولا، ثم ها نحن نرى أن الكاثوليكية قد خضعت هي الأخرى في السنوات الأخيرة، حتى أعلنت تبرئة اليهود من دم المسيح، وسمحت للمسيحيين بالانضمام إلى محافل الماسونية.!!
[المخططات التلمودية، صـ63].
قد كان على المسيحيين- قبل المسلمين- أن يهبوا- ولديهم القوة لأخذ ثأرهم من بني إسرائيل- (اليهود) لدورهم الذي قاموا به مع أعظم شخصية لديهم، لا أن يمتحلوا لهم الأعذار، ويقوموا بتأليف وثيقة لتبرئة اليهود من دم المسيح.
[جنايات بني إسرائيل على الدين والمجتمع، صـ 159- 160، بتصرف].
حيث أصدر (المؤتمر الإكليروسي العالمي) المنعقد برئاسة (البابا بولس السادس) سنة 1963م، قرارا بتبرئة اليهود من دم المسيح، هذا نصه: إن التآمر اليهودي على السيد المسيح لم يكن جماعيا، وإن اليهود الذين لم يحضروا ذلك التآمر أبرياء من اللعنة.
هذا القرار لم يأت عفو الخاطر وإنما جاء ولا شك بعد جهود دائبة مكثفة وعمل مضني امتد عدة قرون.
[القوى الخفية، صـ78- 79، بتصرف].
تبرئة اليهود من اللعنة مع أن الإنجيل ينص صراحة على لعن اليهود.!!
ويؤكد على أنهم هم الذين طلبوا اللعنة على أنفسهم، وعلى ذراريهم من بعدهم، وهذا يدل على أن القرار لم يأت عفوا بلا تعب، فلا يدين جميع اليهود الذين عاصروا المسيح، ويبرئ اليهود الذين لم يحضروا ذلك التآمر من الأجيال اللاحقة، تلك الأجيال التي كانت وما تزال وستبقى تحمل التوراة وتقدسها، وتقدم التلمود عليها- وكما رأينا التلمود- يصف المسيح بالدجل، ويصف أمه بالزنا، ويحكم عليه أنه في سقر، بين القار والنار.!!
فهل لمثل هذا ينعت شعب الله المختار بالشعب الملعون، والشعب القاتل؟!!
لا، لا... إنه برئ من اللعنة، برئ من الصلب والقتل!!
ولم يكتف المؤتمرون بقرار التبرئة هذا، بل إنهم حملوا على جميع الأديان، ما عدا المسيحية واليهودية طبعا، ووصفوها بأنها ديانات وثنية.
[القوى الخفية، صـ 80].
ومع وجود هذا القرار الذي برأ ساحة اليهود من دم المسيح لا يسعنا إلا أن نفتح الإنجيل لنفتح به بصيرة عميان المسيحية بعد أن أعمت اليهودية بذهبها بصرهم.
لنفتح إنجيل متى، ونقرأ: ويل لكم، أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تبنون قبور الأنبياء وتزينون مدافن الصديقين، وتقولون: لو كنا في أيام آبائنا، لما شاركناهم في دم الأنبياء، فأنتم بذلك تشهدون على أنكم قتله، أيها الحيات، يا أولاد الأفاعي، يا أبناء إبليس، كيف تهربون من دينونة جهنم، لذلك أنا أرسل لكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في مجامعكم، وتطردون من مدينة إلى مدينة.
[إنجيل متى، إصحاح، 23].
ألا يدل هذا الكلام الذي جاء على لسان المسيح، دلالة صريحة على أن اليهود قتلة في كل زمان ومكان؟ هل ما زلتم في شك من ذلك؟ أما قرأتم هذا الحوار الذي دار بين اليهود وبين (بيلاطوس البنطي) قُبَيل محاكمة المسيح..؟
بيلاطوس: وأي شر عمل؟
الجميع: ليصلب، ليصلب.
(فلما رأي بيلاطوس أنه لا ينفع شيئا، أخذ ماء، وغسل يديه قدام الجميع)
وقال بيلاطوس: إني برئ من دم هذا البار، أبصروا أنتم.
الجميع: دمه علينا وعلى أولادنا.
فهذا بيلاطوس غسل يديه من دم المسيح، لئلا يلطخها بالدم البريء، في حين كان جميع المجتمعين يقولون: (دمه علينا وعلى أولادنا).
[إنجيل متى، إصحاح، 27 (20- 26) بتصرف].
ولا شك أن المسيحيين قد قرأوا في إنجيلهم هذا الحوار المأساوي الذي دار بين المسيح ومن أرادوا صلبه قبيل تنفيذ عملية الصلب هذه- حسب زعم الإنجيل.
اليهود: أبونا إبراهيم.
المسيح: لو كنتم أولاد إبراهيم، لكنتم تعلمون أعمال إبراهيم، ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله، هذا لم يعمله إبراهيم، أنتم تعملون أعمال أبيكم.
اليهود: إننا لم نولد من زنى، لنا أب واحد، هو الله.
المسيح: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني، لأني خرجت من قبل الله وأتيت، لأني لم آت من نفسي، بل ذاك أرسلني، لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي، أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا، ذاك كان قتالا للناس من البدء، ولم يثبت في الحق، لأنه ليس فيه حق، متى تكلم بالكذب فإنه يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب، وأما أنا فلأني أقول الحق، لستم تؤمنون بي، من منكم يبكي على خطيئته؟ فإن كنت أقول الحق، فلماذا لستم تؤمنون بي؟ الذي من الله يسمع كلام الله.
اليهود: ألسنا نقول حسنا؟ إنك سامري، وبك شيطان.
المسيح: أنا ليس بي شيطان، لكني أكرم أبي، وأنتم تهينونني، أنا لست أطلب مجدي، يوجد من يطلب ويدين، الحق الحق أقول لكم، إن كان أحد يحفظ كلامي، فلن يرى الموت إلى الأبد.
اليهود: الآن علمنا أن بك شيطانا، قد مات إبراهيم والأنبياء، وأنت تقول إن كل واحد يحفظ كلامي، فلن يذوق الموت إلى الأبد، ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم الذي مات والأنبياء الذين ماتوا؟ من تجعل نفسك؟
المسيح: إن كنت أمجد نفسي، فليس مجدي شيئا... أبي هو الذي يمجدني، الذي تقولون أنتم إنه إلهكم، وليس تعرفونه، وأما أنا فأعرفه، وإن قلت إني لست أعرفه أكن مثلكم كاذبا، لكنني أعرفه وأحفظ قوله.
أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح.
اليهود: ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟
المسيح: الحق، الحق، أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.
تقول الرواية: لقد رفعوا حجارة ورجموه بها، ثم بعد ذلك صلبوه.
[إنجيل يوحنا، إصحاح، 8 (38- 4)] (زعموا!!)
فهذا الذي فعله هؤلاء الأبرياء!! فهل تريدون المزيد؟
وأنا أعلم- وايم الله- أن المسيح لم يصلب، ولكني أوقن والله لو لم يرفعه الله إليه لصلبه اليهود، ما يتورعون من ذلك، ووالله لو استطاعوا صلبه وقتله أكثر من مرة لفعلوا، وليس هذا مع المسيح فقط، بل ومع كل الأنبياء، وسائر الصلحاء، والمصلحين والمقسطين، وصدق ربنا العظيم، القائل في قرآنه الكريم: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [سورة البقرة: 87].
{إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم...} [سورة آل عمران: 21].
إنهم ما قتلوا المسيح لأن الله نجاه، ولأنه رفعه إليه، ولكن القتل والصلب وقع على شبه المسيح، كما قال تعالى: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [سورة النساء: 157].
ألقى الله شبه المسيح على (يهوذا الأسخريوطي)، زعيم الطائفة التي تطارد المسيح فقتلوه وصلبوه وعذبوه، ومع ذلك فنحن لا نبرئهم من دم المسيح كما فعلت الكنائس المسيحية، لأن قوانين العقوبات تقول: إنه إذا ترصد شخص لقتل آخر ووضع الرصاصة في بندقيته وصوبها إليه ليقتله فقتل غيره بدلا منه... فإنه حقيقة ما قتل من يقصد قتله ولكنه قاتل بالعمد وبسبق الإصرار، وبإزهاق روح..
[اليهود في القرآن الكريم، تأليف: الشيخ صلاح أبو إسماعيل، صـ 38، بتصرف، ط/ جمعية الشيخ عبد الله النوري الخيرية الكويت، الثانية، 1410 هـ/ 1990م].
- إن المسيح جاء ليكشف تعاليم اليهود الشريرة، ويطردهم من الهيكل الذي دنسوه، ولهذا فإنهم لم يعفوا عنه.
- إن قرار التبرئة هذا كان قرارا سياسيا، اقتضاه قيام إسرائيل وخروج اليهود علنا إلى مسرح السياسة العالمية.
فهل رفع المسيحيون على اليهود قضية يطالبونهم فيها بدم المسيح، حتى يطلب هؤلاء منهم براءتهم من دمه؟
إن الإجابة على السؤال تفسر لماذا ألح اليهود على الفاتيكان بإصدار القرار، وفي هذا الوقت بالذات!!
[القوى الخفية، صـ 92، 94بتصرف].